الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
أما بعد.
ففي هذه السطور أكتب ما وقفت عليه من كلام أهل العلم فيما يتعلق بمسألة سجود التلاوة، وقد رتبت هذا الموضوع على النحو التالي:
مشروعية سجود التلاوة،، حكم سجود التلاوة أثناء الصلاة،، هل يشترط الطهارة لسجود التلاوة،، صفة سجود التلاوة خارج الصلاة، صفة سجود التلاوة للمريض والمسافر على الراحلة، هل يشرع تكرار سجود التلاوة إذا سمع آية السجدة أكثر من مرة، هل يشرع سجود التلاوة في أوقات النهي عن الصلاة،، ماذا يقول في سجود التلاوة، هل يشرع قضاء سجود التلاوة إذا أخره عن وقته، هل يجب التسليم بعد سجود التلاوة،، المواضع التي أمرنا فيها بسجود التلاوة.
فنقول وبالله تعالى التوفيق:
* شرع الله تعالى لعباده من النوافل ما يقربهم إليه، ومن ذلك أنه شرع لهم "سجود التلاوة"، وهو السجود الذي يكون عند تلاوة الآيات التي تشتمل على السجدة لكمال الخشوع وإظهار الافتقار لله تعالى، والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من المصالح والفوائد.
* مشروعية سجود التلاوة.
ومما يدل على مشروعيته قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}
وما رواه ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم:«كان يقرأ القرآن فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته». رواه مسلم.
* وسجود التلاوة تحصل بسجدة واحدة باتفاق الفقهاء ولا يشرع الزيادة على ذلك، والصحيح أنه لا يجزئ عن السجود ولا يغني قول: "سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير". أو: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر". بل هو عمل استحسنه بعض الفقهاء ولا أصل له في الشرع.
* والسجود المشروع أن يتلو القارئ القرآن لقصد التلاوة ثم يسجد لآية السجدة أما أن يقتصر فقط على تلاوة آية السجدة ويكون قصده السجود فيكره ذلك عند جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة.
* حكم سجود التلاوة أثناء الصلاة.
قال الإمام النووي في "المجموع":"فسجود التلاوة سنة للقارئ والمستمع، بلا خلاف، وسواء كان القارئ في صلاة أم لا، وفي وجه شاذ ضعيف، لا يسجد المستمع لقراءة مصل غير إمامه حكاه الرافعي، وسواء سجد القارئ أم لم يسجد يسن للمستمع أن يسجد.
هذا هو الصحيح، وبه قطع الجمهور.
وقال الصيدلاني: لا يسن له السجود إذا لم يسجد القارئ، واختاره إمام الحرمين، ولو استمع إلى قراءة محدث أو كافر أو صبي فوجهان: الصحيح استحباب السجود، لأنه استمع سجدة.
والثاني: لا، لأنه كالتابع للقارئ، وأما الذي لا يستمع، لكن يسمع بلا إصغاء ولا قصد، ففيه ثلاثة أوجه، الصحيح المنصوص في البويطي وغيره أنه يستحب له ولا يتأكد في حقه تأكده في حق المستمع، والثاني: أنه كالمستمع، والثالث:لا يسن له السجود، وبه قطع الشيخ أبو حامد في تعليقه، والبندنيجي. اهــ.
فسجود التلاوة سُنة عند جمهور الفقهاء وهو الصحيح لما ثبت في "صحيح البخاري" أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه ولم يسجد عمر رضي الله تعالى عنه). وأقره الصحابة على ذلك ولم ينكر عليه أو يخالفه أحد فدل ذلك على إجماع الصحابة وهذا فيه رد لقول من أوجب سجود التلاوة.
* هل يشترط الطهارة لسجود التلاوة.
مذهب عامة الفقهاء أنه يشترط لسجود التلاوة ما يشترط للصلاة من طهارة من الحدث الأصغر والأكبر واجتناب نجاسة وستر عورة واستقبال القبلة، لأن السجود جزء من الصلاة فيأخذ حكم الصلاة فيما يشترط لها ويدخل في عموم النصوص.
قال ابن قدامة :"يشترط لسجود التلاوة ما يشترط لصلاة النافلة من الطهارتين من الحدث والنجس، ولا نعلم فيه خلافاً إلا ما روي عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه في الحائض تسمع السجدة تومئ برأسها وبه قال سعيد بن المسيب".
وقال العراقي في "طرح التثريب": "وحكى النووي وغيره الإجماع على اشتراط الطهارة فيهما، وروى ابن أبي شيبة في مصنفه بإسناد فيه جهالة أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان ينزل عن راحلته فيهريق الماء ثم يركب فيقرأ السجدة ويسجد وما توضأ".
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى عدم اشتراط ذلك لأنه لم يرد اشتراط ذلك في السنة والأصل براءة الذمة.
ولكن الأحوط والأقيس مراعاة هذه الشروط في سجود التلاوة.
ولا يشرع للحائض والجنب السجود للتلاوة لأنهما ممنوعان شرعا من الصلاة والسجود في معناها.
* صفة سجود التلاوة خارج الصلاة.
وإذا سجد خارج الصلاة كبر في ابتداء السجود في خفضه ولم يكبر في انتهائه عند رفعه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه كبر بعد السجود وإنما نقل عنه عند الخفض لما رواه أبو داود في سننه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا).
واستحب الجمهور التكبير مطلقاً قبل السجود وبعده وهو قول حسن ورد عن بعض السلف ويقتضيه القياس ويكون للقارئ علامة لانتهاء السجود لمن ائتم به بالسجود.
أما تكبيرة الإحرام فلا تشرع لسجود التلاوة على الصحيح خلافاً للشافعية.
* صفة سجود التلاوة للمريض والمسافر على الراحلة.
المشهور عند الفقهاء أن المريض الذي لا يستطيع السجود يجزئه في سجود التلاوة الإيماء بالسجود لعذره كما يومئ في صلاته.
وكذلك المسافر على الراحلة إذا قرأ آية سجدة أومأ في سجوده على الصحيح لأن سجوده من التطوع، وثبت في السنة التطوع فوق الراحلة، وهذا مذهب جمهور الفقهاء.
أما الماشي إذا أراد السجود للتلاوة وجب عليه السجود على الأرض وتمكين جبهته عليها ولا يجزئه الإيماء حينئذ.
* هل يشرع تكرار سجود التلاوة إذا سمع آية السجدة أكثر من مرة.
إذا كرر القارئ آية السجدة أجزأه أن يسجد مرة واحدة، ولم يكرر السجود حينئذ على الصحيح لأنه قد حصل المقصود ولأن في ذلك مشقة ظاهرة.
* هل يشرع سجود التلاوة في أوقات النهي عن الصلاة.
الصحيح أنه لا حرج في السجود للتلاوة وقت النهي بناء على مشروعية فعل الصلوات ذوات الأسباب في أوقات النهي كما دلت السنة الصحيحة على ذلك، وهو قول الشافعي وغيره من أهل العلم، والسجود شرع لسبب التلاوة فيدخل في عموم ذوات الأسباب.
* ماذا يقول في سجود التلاوة.
يستحب في سجود التلاوة ما يستحب في سائر السجود من الذكر المشروع والدعاء فيقول الساجد: (سبحان ربي الأعلى)، و(سبوح قدوس رب الملائكة والروح)، ويقول:(سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته تبارك الله أحسن الخالقين).
ويقول: (اللهم اكتب لي بها عندك أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وضع عني بها وزرا، واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود).
وكل ذلك ثابت في السنة الصحيحة يتخير منها ما شاء وإن جمعها فحسن، وإن أحب أن يدعو بما شاء فحسن لأن السجود موضع من مواضع الدعاء المستجاب.
* هل يشرع قضاء سجود التلاوة إذا أخره عن وقته.
المشروع في وقت سجود التلاوة عند ختام آية السجدة، فإن أخرها قليلاً لسهو أو عذر فلا حرج عليه أن يقضيها كسائر النوافل، وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء، أما إذا طال الوقت فلا يشرع قضاؤها على الصحيح لأنه فات وقتها بزوال السبب الذي شرعت لأجله.
* هل يجب التسليم بعد سجود التلاوة.
لم يرد نص في السلام بعد سجود التلاوة، فليس على من سجدها سلام.
* المواضع التي أمرنا فيها بسجود التلاوة.
ويشتمل القرآن على خمس عشرة سجدة، لما جاء عن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً فِي الْقُرْآنِ، مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَان، أخرجه أصحاب السنن بإسناد حسن.
وهي على النحو التالي:
1- قال تعالى:{إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون}[سورة الأعراف].
2- وقوله تعالى:{ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرها وظلالهم بالغدو والآصال}[سورة الرعد]
3- وقوله تعالى:{ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون } [سورة النحل]
4- وقوله تعالى {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً}[سورة الإسراء ].
5- وقوله تعالى:{إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً} [سورة مريم ].
6- وقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [سورة الحج].
7- وقوله تعالى {يا أيّهَا الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون } [سورة الحج].
8- وقوله تعالى:{وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا، وزادهم نفورا } [سورة الفرقان].
9- وقوله تعالى :{إلا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون} [سورة النمل].
10-وقوله تعالى {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خرُّوا سجداً وسبحوا يحمد ربهم وهم لا يستكبرون} [سورة السجدة].
11- وقوله تعالى :{وظنَّ داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخرَّ راكعاً وأناب} [سورة ص].
12- وقوله تعالى :{ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون}[سورة فصلت ].
13- وقوله تعالى {فاسجدوا لله واعبدوا } [ سورة النجم].
14-وقوله تعالى :{وإذا قُرئ عليهم القرآن لا يسجدون} [سورة الانشقاق].
15وقوله تعالى: {واسجد واقترب } [سورة العلق]
كتبه أخوكم
محمد بن صلاح الصيرفي
5 / 11 / 1432 هـ