بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
أما بعد.
فإن من شيم الأخيار التماس العذر للناس.
والعذر:هو الحجة التي يعتذر بها الإنسان عند خطأ ارتكبه، أو تصرف لا يليق به.
وقيل إن العذر هو: تحرير الإنسان ما يمحي به ذنوبه إما بالإنكار أو ذكر السبب الملجئ للفعل أو الاعتراف والوعد بعدم العودة وهذا توبة نصوح .
والتماس العذر: معناه رفق الإنسان بالمخطئ، و عدم مقابلة سيئته بمثلها، بل يلتمس الإنسان له عذرا، فيعفو و يصفح، ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال :
رزقت أكرم ما في الناس من خلق *** إذا رزقت التماس العذر في الشيم.
أي أن الإنسان يكون على جانب كبير من مكارم الأخلاق إذا لم يقابل السيئة بالسيئة ، بل تلطف بالمذنب وأشفق عليه، و أضرب صفحا عن زلته، و قدر ما يكون هناك من أسباب أو عوامل دفعت بالمذنب إلى ارتكاب ما ارتكب من خطأ و لا شك أن تعالي الإنسان عن مقابلة العدوان بالعدوان ،و الصفح الجميل عن الهفوة و الزلة، خلق من أخلاق القرآن الكريم، و فضيلة من فضائل الإسلام الحنيف، و جانب من هدي النبي الكريم عليه الصلاة و التسليم .
و ها هو القرآن الكريم يحبب في المغفرة و الصفح و العفو و عدم مقابلة السيئة بمثلها يقول تعالى في سورة النور{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } سورة النور : 22.
أي لا يحلف أصحاب الفضل منكم وأهل الإحسان والقدرة أن يؤتوا الأقارب و المحتاجين، أي لا تحلفوا أن لا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين، و ليعفوا وليصفحوا عما تقدم منهم من الإساءة و الأذى.
ونزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضوان الله عليه بعد نزول القرآن ببراءة الصديقة ابنته الطاهرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، و قد عرف أن مسطح بن أثاثة كان ممن خاضوا فيه، و هو قريبه و هو من فقراء المهاجرين و كان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه فآلى أبو بكر على نفسه لا ينفع مسطحا بنافعة أبدا.
فنزلت هذه الآية تذكِّر أبا بكر و تذكِّر المؤمنين بأنهم هم يخطئون ثم يحبون من الله أن يغفر لهم، فليأخذوا أنفسهم بعضهم مع بعض بهذا الذي يحبونه، ولا يحلفوا أن يمنعوا البر عن مستحقيه إن كانوا قد أخطأوا و أساءوا.
و هنا نطلع على أفق عال من آفاق النفوس الزكية التي تطهرت بنور الله، أفق يشرق في نفس أبي بكر الأبية، أبى بكر الذي مسه حديث الإفك في أعماق قلبه، و الذي احتمل مرارة الآلام لبيته و عرضه.
فما يكاد يسمع دعوة ربه إلى العفو، و ما يكاد يلمس وجدانه ذلك السؤال الموحي{أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}؟ .
حتى يرتفع على الآلام و يرتفع على مشاعر الإنسان ويرتفع على منطق البيئة و حتى تشف روحه و تشرق بنور الله، فإذا هو يلبي داعي الله في طمأنينة و صدق يقول :" بلى و الله إني لأحب أن يغفر الله لي " و يعيد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه و يحلف :"و الله لا أنزعها منه أبدا".
ذلك في مقابل ما حلف من قبل:"و الله لا أنفعه بنافعة أبدا" ، بذلك يمسح الله على آلام ذلك القلب الكبير، و يغسله من أوضار المعركة ليبقى أبدا نظيفا طاهرا زكيا مشرقا بالنور.
ودرء السيئة بالحسنة لون حميد من الصبر و هو أشد من مجرد الصبر على الإيذاء و السخرية، فيه استعلاء على كبرياء النفس، و فيه فوق ذلك سماحة راضية، ترد القبح بالجميل و تقابل الجاهل بالطمأنينة ،وهذه مكانة لا يبلغها إلا المؤمنون الذين يعاملون الله فيرضاهم و يرضونه فيلقون ما يلقون من الناس راضين مطمئنين.
و يتحدث الإمام ابن القيم عن مقابلة الإساءة بالإحسان و هي فضيلة تتضمن التماس الأعذار للناس، فيذكر أن كمال هذه الفضيلة لم يتحقق لأحد سوى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ثم لورثة هديه من بعده بحسب سهامهم من التركة .
ولا عجب في ذلك ورسولنا الكريم يحثنا على هذا الخلق النبيل بقوله :«اتق الله حيث ما كنت و اتبع السيئة الحسنة تمحها و خالق الناس بخلق حسن» أخرجه الترمذي (1987)
و يقول الهروي رحمه الله عن درجات الفتوة :" إن الدرجة الثانية منها أن تقرب من يقصيك، وتكرم من يؤذيك، وتعتذر إلى من يجني عليك، سماحة لا كظماً ، و مودة لا مثابرة".
وقال ابن القيم عن شيخه ابن تيمية رحمهما الله :" وما رأيت أحدا قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: " وددت أنه لأصحابه مثله لأعدائه وخصومه، و ما رأيته يدعو على أحد منهم قط و كان يدعو لهم ،وجئت يوماً مبشرا له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة و أذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم و قال : "إني لكم مكانه، و لا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم عليه".
و في تراثنا الأدبي كلمات نوابغ تدل على النبل في التماس الأعذار للناس فها هو الشاعر الفصيح المؤمل بن أميل يقول :
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم *** وتخطئون فنأتيكم ونعتذر.
ويقول الهروى أيضا :" اعلم أن من أحوج عدوه إلى شفاعة ولم يخجل من المعذرة إليه لم يشم رائحة الفتوة".
و يعلق ابن القيم على هذه المقولة بقوله :" يعنى أن العدو متى علم أنك متألم من جهة ما نالك من الأذى منه احتاج إلى أن يعتذر إليك و يشفع إليك شافعا يزيل ما في قلبك منه، فالفتوة كل الفتوة أن لا تحوجه إلى الشفاعة بأن لا يظهر له منك عتب و لا تغير عما كان له منك قبل معاداته و لا تطوى عنك بشرك و لا برك وإذا لم تخجل أنت من قيامه بين يديك مقام المعتذر لم يكن لك في الفتوة نصيب ".
من هذا الباب ما قاله الهروى :" كل معصية عيرت بها أخاك فهي لك".
و قال الإمام الترمذي رحمه الله :" من عيَّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله".
قال الحارث المحاسبي رحمه الله:" إن من حسن الخلق احتمال الأذى و قلة الغضب وبسط الوجه، و طيب الكلام، و يستلزم حسن الخلق أمورا منها : كتمان السيئة، واحتمالها و عدم استجابة الغضب و عدم ظهور غيظ على الوجه والكلام الطيب الجميل ".
و لا يقدر على هذا الحمل إلا من وفقه الله لطاعته {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} سورة فصلت: 35، وما تقدم"مستفاد من كلمات الشيخ الطاهر بدوي الجزائري".
وللسلف كلمات مفيدة في هذا الباب منها:
قول جعفر بن محمد:" إذا بلغك عن أخيك الشيءَ تنكره ؛ فالتمس له عذراً واحداً إلى سبعين عذراً ، فإن أصبته وإلا قل لعل له عذراً لا أعرفه" ذكره البيهقي في "شعب الإيمان(6/323)
وقال حمدون القصار:"إذا زل أخٌ من إخوانكم فاطلبوا له سبعين عذراً ، فإن لم تقبله قلوبكم، فاعلموا أن المعيب أنفسكم ؛ حيث ظهر لمسلم سبعين عذراً فلم تقبله" ذكره أبو عبد الرحمن السلمي في "آداب الصحبة" ص(45)، والبيهقي في "شعب الإيمان (7/522)
قال محمد بن سيرين:" إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذراً ، فإن لم تجد له عذراً فقل لعل له عذراً" التوبيخ والتنبيه" لأبي الشيخ ص(53)، والبيهقي في"الشعب" (6/323)
وقال أبو قلابة :" التمس لأخيك العذر بجهدك ، فإن لم تجد له عذراً فقل لعل لأخي عذراً لا أعلمه" ذكره ابن أبي الدنيا في "مداراة الناس" ص(49).–--
وقال عمر بن عبد العزيز :" أعقل الناس أعذرهم لهم" .
من الأسباب المعينة على حُسن الظن بالناس والتماس الأعذار لهم:
هناك العديد من الأسباب التي تعين المسلم على إحسان الظن بالآخرين، والتماس الأعذار لهم ومن هذه الأسباب:
* الدعاء: فإنه باب كل خير، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يرزقه قلبًا سليمًا، فالقلب السليم لا يسيء الظن بالناس، ويلتمس لهم الأعذار.
* إنزال النفس منزلة الغير: فلو أن كل واحد منا عند صدور فعل أو قول من أخيه وضع نفسه مكانه لحمله ذلك على إحسان الظن بالآخرين، وقد وجه الله عباده لهذا المعنى حين قال سبحانه:{لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} سورة النور:12.–--
وأشعر الله عباده المؤمنين أنهم كيان واحد ، حتى إن الواحد حين يلقى أخاه ويسلم عليه فكأنما يسلم على نفسه:{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} سورة النور:61.
* حمل الكلام على أحسن المحامل: هكذا كان دأب السلف رضي الله عنهم، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:" لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً".
وانظر إلى الإمام الشافعي رحمه الله حين مرض وأتاه بعض إخوانه يعوده، فقال للشافعي: "قوى لله ضعفك"، قال الشافعي: "لو قوى ضعفي لقتلني"، قال:" والله ما أردت إلا الخير"، فقال الإمام:"أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير".
فهكذا تكون الأخوة الحقيقية إحسان الظن بالإخوان حتى فيما يظهر أنه لا يحتمل وجها من أوجه الخير.
* التماس الأعذار للآخرين: فعند صدور قول أو فعل يسبب لك ضيقًا أو حزنًا حاول التماس الأعذار، واستحضر حال الصالحين الذين كانوا يحسنون الظن ويلتمسون المعاذير حتى قالوا: التمس لأخيك سبعين عذراً.
* تجنب الحكم على النيات: وهذا من أعظم أسباب حسن الظن بالناس والتماس الأعذار لهم؛ حيث يترك العبد السرائر إلى الذي يعلمها وحده سبحانه، والله لم يأمرنا بشق الصدور، ولنتجنب الظن السيئ.
* استحضار آفات سوء الظن: فمن ساء ظنه بالناس كان في تعب وهم لا ينقضي فضلاً عن خسارته لكل من يخالطه حتى أقرب الناس إليه ؛ إذ من عادة الناس الخطأ ولو من غير قصد ، ثم إن من آفات سوء الظن أنه يحمل صاحبه على اتهام الآخرين ، مع إحسان الظن بنفسه، وهو نوع من تزكية النفس التي نهى الله عنها في كتابه: {فلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} سورة النجم:32.
وأنكر سبحانه على اليهود هذا المسلك:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} سورة النساء:49.
إن إحسان الظن بالناس والتماس الأعذار لهم يحتاج إلى كثير من مجاهدة النفس لحملها على ذلك، خاصة وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ولا يكاد يفتر عن التفريق بين المؤمنين والتحريش بينهم، وأعظم أسباب قطع الطريق على الشيطان هو إحسان الظن بالمسلمين، والتماس العذر لهم.
والحمد لله وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.