الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله وعلى آله وصحبه.
أما بعد.
فكيف نخرج من الغفلة إلى استشعار أن الله تعالى مطلع على أعمالنا، بصير بأحوالنا، يعلم سرنا ونجوانا، يعلم ما أظهرنا وما أخفينا، يعلم ما نقوله وما نكتبه وما نسمعه وما نراه، ويعلم من أحوالنا كل صغير وكبير، كل جليل وحقير، يعلم الهفوات والزلات والكبوات.
يراقبنا في كل شيء، يرى إحساننا ويرى إساءتنا ، لا يخفى عليه شيء من أمرنا.
فالله الله ، كم هو حليم يرانا نعصاه ويسترنا، يرانا نغفل عن ذكره ولم ينسانا ولم يحرمنا لا من طعام ولا من شراب ولا من عافية.
عصيناه بألسنتنا فلم يصيبنا بالخرس.
عصيناه بأعيننا فنظرنا إلى ما حرم علينا ومع ذلك لم يصيبنا بالعمى .
عصيناه بآذاننا فسمعنا ما حرم علينا ومع ذلك لم يصيبنا بالصمم.
عصيناه بأيدينا فاعتدينا على الناس إما بالضرب أو بالتعليقات التي تنقص منهم أو تطعن فيهم ومع ذلك لم يصيبنا بالشلل.
فكم هو رحيم رؤوف حليم ، ألا يستحق منا أن نتوب إليه، ونعود إلى طاعته، أم سنظل في غفلة عن أمرنا، أستهوانا الشيطان، وأضلنا الشيطان، شغلنا الشيطان بما لا نفع فيه لنا لا في ديننا ولا في دنيانا، حتى أصبح همنا من علق على موضوعاتنا، وماذا قال الناس عنا.
شغلنا الشيطان بحب الاطلاع على ما يدور حولنا ، هؤلاء يسبون في هؤلاء، وهؤلاء يطعنون في هؤلاء، وهؤلاء يرشحون هذا، وهؤلاء يمتدحون هذا، وهؤلاء يتنقصون من هذا، وكل هذه أمور لا نفع في أكثرها، ومع ذلك من حب الاستطلاع نهتم بمعرفتها، ولكن ما النتيجة، ما الفائدة التي تحصل إنه ضياع الوقت، نعم ضياع الوقت، فكم من ساعات تضيع بلا فائدة، وعمرك أيها الإنسان هو رأس مالك الذي تقدم به على ربك، إما أن تتاجر به في أعمال صالحة تزيد من رصيد حسناتك، وإما أن تهدره في غفلة ومعصية تزيد من رصيد سيئاتك.
وقد قيل : إن الناس في غفلة فإذا ماتوا انتبهوا.
انتبهوا إلى أنه كان بإمكانهم أن يذكروا الله ذكرا كثيراً، وأن يسبحوه بكرة وأصيلا، وأن يحافظوا على الصلوات ، وأن يتلوا القرآن، وأن يكثروا من الصلاة والسلام على خير الأنام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن الجوزي :" من أظرف الأشياء إفاقة المحتضر عند موته، فإنه ينتبه إنتباها لا يوصف، ويقلق قلقا لا يحد، ويتلهف على زمانه الماضي، ويود لو ترك كي يتدارك ما فاته، ويصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت، ويكاد يقتل نفسه قبل موتها بالأسف، ولو وجدت ذرة من تلك الأحوال في أوان العافية حصل كل مقصود من العمل بالتقوى.
فالعاقل من مثَّل تلك الساعة وعمل بمقتضى ذلك، فإن لم يتهيأ تصوير ذلك على حقيقته تخايله على قدر يقظته، فإنه يكف كف الهوى، ويبعث على الجد، فأما من كانت تلك الساعة نصب عينيه، كان كالأسير لها، كما روي عن حبيب العجمي إنه كان إذا أصبح يقول لامرأته: إذا مت اليوم ففلان يغسلني، وفلان يحملني.
وقال معروف لرجل صل بنا الظهر، فقال: إن صليت بكم الظهر لم أصل بكم العصر، فقال: وكأنك تؤمل أن تعيش إلى العصر، نعوذ بالله من طول الأمل.
وذكر رجل رجلا بين يديه بغيبة، فجعل معروف يقول له: أذكر القطن إذا وضعوه على عينيك".اهـ
اعلم وفقني الله وإياك أن من يرد الله به خيرا يفقه في الدين، والفقه في الدين يحمل الإنسان على اغتنام وقته فقد ورد من أعمال النبي صلى الله عليه وسلم وسننه وأقواله ما لا يسع وقت المؤمن أن يحصرها فيه، فعندنا في هذا الدين طرق الخير والبر كثيرة ومتنوعة، وهذا من فضل الله علينا أن نوَّع لنا من فعل الخيرات حتى لا نمل من شيء، فمن لم يستطع أن يكثر من صلاة النافلة، وقيام الليل، فلا أقل من أن يكثر من التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد، بأن يقول " سبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر والحمد لله".
من لم يستطع الصيام فلا أقل من أن يحافظ على قراءة أجزاء من القرآن يومياً .
من لم يستطع بذل ماله في سبيل الله فلا أقل من أن يتصدق بكلمة طيبة ، أمر بمعروف أو نهي عن منكر، فالكلمة الطيبة صدقة، والأمر بالمعروف صدقة، والنهي عن المنكر صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وكف شرك عن الناس صدقة منك على نفسك، والآثار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا كثيرة صحيحة.
عبد الله، أعلم أن الجنة في انتظارك، وأن النار في انتظارك، ولابد أن تدخل في إحداهما، إما الجنة وإما النار، قال تعالى:{فريق في الجنة وفريق في السعير}.
فاعمل لدارك غدا، فإنك لن تدخل الدار إلا التي كنت في الدنيا تعمل من أجلها، ولله در القائل:
اعمل لدار البقاء رضوان خازنها **** والجار أحمدا والرحمن بانيها
أرض لها ذهب والمسك طينتها **** والزعفران حشيش نابت فيها
أنهارها لبن محض ومن عسل **** والخمر يجري رحيقا في مجاريها
والطير تجري على الأغصان عاكفة ****تسبح الله جهرا في مغانيها
من يشتري الدار بالفردوس يعمرها **** بركعة في ظلام الليل يخفيها
أو سد جوعة مسكين بشبعته**** في يوم مسغبة عم الغلا فيها
النفس تطمع في الدنيا وقد علمت **** أن السلامة فيها ترك ما فيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها **** ودارنا لخـراب الــبوم نبنيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها****إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فمن بناها بخير طاب مسكنه **** ومن بناها بشر خاب بانيها
والناس كالحب والدنيا رحى نصبت **** للعالمين وكف الموت يلهيها
فلا الإقامة تنجي النفس من تلف**** ولا الفرار من الأحداث ينجيها
تلك المنازل في الآفاق خاوية **** أضحت خرابا وذاق الموت بانيها
أين الملوك التي عن حظها غفلت**** حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
أفنى القرون وأفنى كل ذي عمر **** كذلك الموت يفني كل ما فيها
نلهو ونأمل آمالا نسر بها **** شريعة المـوت تــطوينا وتطويها
فاغرس أصول التقى ما دمت مقتدرا****واعلم بأنك بعد الموت لاقيها
تجني الثمار غدا في دار مكرمة **** لا من فيها ولا التكدير يأتيها
الأذن والعين لم تسمع ولم تره ***** ولم يجر في قلوب الخلق ما فيها
فيا لها من كرامات إذا حصلت **** ويا له من نفوس سوف تحويها
** فكم من خير في الجنة ينتظرنا، وكم من نعيم في الجنة ينتظرنا، وإذا أردت أن تعرف هذا فاقرأ سورة الرحمن، وسورة الواقعة، وسورة الإنسان، وخواتيم سورة الزمر، ففيهم من وصف النعيم الذي يعيشه أهل الجنة ما يجعل القلب يطيرا فرحاً لدخولها.
قال تعالى :{ وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا (12) متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا (13) ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا (14) ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا (15) قوارير من فضة قدروها تقديرا (16) ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا (17) عينا فيها تسمى سلسبيلا (18) ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا (19) وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا (20) عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا (21) إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا}. الله أكبر ، ما أجمل هذا النعيم، أسأل الله يجعلنا جميعا من أهله.
* تذكر دائماً أنك لست وحدك، بل معك ملك يكتب الحسنات، وآخر يكتب السيئات، وشيطان يحرضك على معصية رب السموات، وضمير في قلبك ينهاك عن مخالفة الله، ونفس إما أن تأمرك بالسوء، وإما أن تلومك على فعل السوء.
وفوق كل هذا اعلم أن الله يبصر حالك، ويعلم ما يدور بداخلك، فما رأيت محرما إلا هو يعلم أنك رأيته، وما سمعت منكراً إلا وهو يعلم أنك سمعته.
واعلم أنك موقوف بين يدي ربك فسائلك عما كنت تعمل.
واعلم أن الذنوب تحرم العبد من كل خير، وما نزلت عقوبة إلا بذنب، ولا رفعت كربة إلا بتوبة.
واعلم أن من عباد الله من يحرص على طاعته، ويكثر من دعائه، ويزيد من استغفاره، أسهروا ليلهم في طاعة الله، وقد أسهر الكثير منا ليله في معصية الله، حافظوا على قيام الليل، تسابقوا إلى شهود الأسحار حتى يكثروا من الاستغفار فوصف الله حالهم فقال : { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون (17) وبالأسحار هم يستغفرون (18)}.
وقال تعالى :{تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون (16) فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون (17) أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون (18) أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون (19) وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون}.
فاختر لنفسك، واحرص على كل خير ينفعك فإنك لا تدري أتعيش إلى الغد أم لا، وكذلك احرص أن تعلم أولادك ما ينفعهم في أمور دينهم لا تتركهم وتنشغل عنهم فإنك اليوم بين أيديهم، وأمام أعينهم، فلا تعلم أتعيش معهم غداً، أم تتركهم وتدفن وحدك.
إن الموت قريب، ويوم القيامة عظيم، والهول فيه شديد، وتذكر قول الحق جل وعلا { فأما من طغى (37) وآثر الحياة الدنيا (38) فإن الجحيم هي المأوى (39) وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى (40) فإن الجنة هي المأوى (41) يسألونك عن الساعة أيان مرساها (42) فيم أنت من ذكراها (43) إلى ربك منتهاها (44) إنما أنت منذر من يخشاها (45) كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها}.
غفر الله لنا ولكم، وهدانا وإياكم لكل خير.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وما فيه من الهدي القويم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
كتبه أخوكم
محمد بن صلاح الصيرفي
11 رجب 1433هـ