الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله وعلى آله وصحبه.
أما بعد.
فمما اطلعت عليه في هذا اليوم، هذا الخبر الجليل الذي ذكره ابن رجب رحمه الله ، وهو مثل عظيم لمن تدبره حتى يعرف من أي أصناف الناس هو،
يقول رحمه الله في شرحه لحديث أبي الدرداء مرفوعاً " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً...".
قال:"ولنضرب هاهنا مثلاً جامعاً لأحوال الخلق كلهم بالنسبة إلى دعوة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانقسامهم في إجابة دعوته إلى سابق ومقتصد وظالم لنفسه، وبه يظهر فضل العلماء الربانيين على غيرهم من الناس أجمعين.
فنقول: مثل ذلك كمثل رسول قدم من بلد الملك الأعظم فأدى رسالة الملك إلى سائر البلدان، وظهر لهم صدقه في رسالته، فكان مضمون رسالته التي أداها عن الملك الأعظم إلى رعيته أن هذا الملك لا إحسان أتم من إحسانه، ولا عدل أكمل من عدله، ولا بطش أشد من بطشه، وأنه لابد أن يستدعي الرعية كلهم إليه، ليقيموا عنده، فمن قدم عليه بإحسان جازاه بإحسانه أفضل الجزاء، ومن قدم عليه بإساءة جازاه بإساءته أشد الجزاء، وأنه يحب كذا وكذا، ويكره كذا وكذا، ولم يدع شيئاً مما تعمله الرعية إلا أخبرهم بما يحبه الملك منه وبما يكرهه، وأمرهم بالتجهز والسير إلى دار الملك التي فيها الإقامة، وأخبرهم بخراب جميع البلدان سوى ذلك البلد، وأن من لم يتجهز بالسير بعث إليه الملك من يزعجه عن وطنه وينقله منه على أسوأ حال، وجعل يصف صفات هذا الملك الحسنى من الجمال والكمال والجلال والإفضال، فانقسم الناس في إجابة هذا الرسول الداعي إلى الملك أقساماً عديدة :
فمنهم من صدقه ولم يكن له هم إلا السؤال عما يحب هذا الملك من الرعية واستصحابه إلى داره عند السير إليه فاشتغل بتخليصه لنفسه وبدعاء من يمكنه دعائه من الخلق إلى ذلك، وعما يكرهه الملك فاجتنبه وأمر الناس باجتنابه وجعل همه الأعظم السؤال عن صفات الملك وعظمته وإفضاله فزاد بذلك محبته لهذا الملك، وإجلاله والشوق إلى لقاءه فارتحل إلى الملك مستصحباً لأنفس ما قدر عليه مما يحبه الملك ويرتضيه، واستصحب معه ركباً عظيماً على مثل حاله سار بهم إلى دار الملك، وقد عرف من جهة ذلك الدليل وهو الرسول الصادق أقرب الطرق التي يتوصل بالسير فيها إلى الملك، وما ينفع من التزود للمسير فيها، وعمل بمقتضى ذلك في السير هو ومن اتبعه فهذه صفة العلماء الربانيين الذين اهتدوا وهدوا الخلق معهم إلى طريق الله، وهؤلاء يقدمون على الملك قدوم الغائب على أهله المنتظرين لقدومه المشتاقين إليه أشد الشوق.
وقسم آخرون: اشتغلوا للتأهب لمسيرهم بأنفسهم إلى الملك ولم يتفرغوا لاستصحاب غيرهم معهم، وهذه صفة العباد الذين تعلموا ما ينفعهم في خاصة أنفسهم، واشتغلوا بالعمل بمقتضاه.
وقسم آخرون تشبهوا بأحد القسمين وأظهروا للناس أنهم منهم، وأن قصدهم التزود للرحيل، وإنما كان قصدهم استيطان دارهم الفانية، وهم العلماء والعباد المراءون بأعمالهم لينالوا بذلك مصالح دارهم التي هم بها مستوطنون، وحال هؤلاء عند الملك الأعظم إذا قدموا عليه شر حال، ويقال لهم : اطلبوا جزاء أعمالكم ممن عملتم لهم ، فليس لكم عندنا من خلاق، وهم أول من تسعر بهم النار من أهل التوحيد
وقسم آخرون فهموا ما أراده الرسول من رسالة الملك، لكنهم غلب عليهم الكسل والتقاعد عن التزود للسفر واستصحاب ما يحب الملك واجتناب ما يكرهه، وهؤلاء العلماء الذين لا يعملون بعلمهم وهم على شفا هلكة، وربما انتفع غيرهم بمعرفتهم ووصفهم لطريق السير فسار المتعلمون فنجوا، وانقطع بمن تعلموا منهم الطريق فهلكوا.
وقسم آخرون: صدقوا الرسول فيما دعاهم إليه الملك لكنهم لم يتعلموا منه طريق السير ولا معرفة تفاصيل ما يحبه الملك وما يكرهه، فساروا بأنفسهم ورموا نفوسهم في طرق شاقة ومخاوف وقفار واعرة - وهي الصحراء القاحلة المقفرة- فهلك أكثرهم وانقطعوا في الطريق ولم يصلوا إلى دار الملك ، وهؤلاء هم الذين يعملون بغير علم.
وقسم لم يهتم بهذه الرسالة ولا رفعوا بها رأساً واشتغلوا بمصالح إقامتهم في أوطانهم التي أخبر الرسول بخرابها، وهؤلاء منهم من كذَّب الرسول بالكلية، ومنه من صدَّقه بالقول ولكنه لم يشتغل بمعرفة ما دل عليه ولا بالعمل به، وهؤلاء عموم الخلق المعرضون عن العلم والعمل ومنهم الكفار والمنافقون والظالمون لأنفسهم.
فلم يشعروا إلا وقد طرقهم داعي الملك فأخرجهم عن أوطانهم واستدعاهم إلى الملك فقدموا عليه قدوم الآبق على سيده الغضبان.
فإذا تأملت أقسان الناس المذكورة لم تجد أشرف ولا أقرب عند الملك من العلماء الربانيين، فهم أفضل الخلق بعد المرسلين".
رحم الله ابن رجب ونفعنا بعلمه.
وبارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم، وصلى الله على البشير النذير محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والتسليم، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.