الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله وعلى آله وصحبه.
أما بعد.
فمما اطلعت عليه اليوم من فوائد أسأل الله أن ينفعني بها ومن قرأها، ما نقله الحافظ ابن رجب رحمه الله في رسالته " كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة"، في وصف حال أهل الإيمان والعلم النافع الذي أثمر في قلوبهم الخشية وحب الله وما عنده ،يقول رحمه الله :" من صفاتهم التي وصفهم بها أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنهم صحبوا الدنيا بأبدان، أرواحها معلقة بالنظر الأعلى، وهذا إشارة إلى أنهم لم يتخذوها وطنًا، ولا رضوا بها إقامة ولا مسكنًا، إنما اتخذوها ممرًا ولم يجعلوها مقرًا.
وجميع الكتب والرسل أوصت بهذا، وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه في وعظه لهم: {يقَوْم إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} غافر: 39.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر: «كُنْ في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، فكأنك بالدنيا ولم تكن، وبالآخرة ولم تزل» أخرجه البخاري.
وفي رواية: «وعدَّ نفسك من أهل القبور».
ومن وصايا المسيح المروية عنه u، أنه قال لأصحابه: «اعبروها ولا تعمروها».
وعنه u أنه قال: «من الذي يبني على موج البحر دارًا؟! تلك الدنيا فلا تتخذوها قرارًا».
فالمؤمن في الدنيا كالغريب المجتاز ببلدة غير مستوطن فيها يشتاق إلى بلده وهمه الرجوع إليها، والتزود بما يوصله في طريقه إلى وطنه، ولا ينافس أهل ذلك البلد المستوطنين فيه في عزهم، ولا يجزع مما أصابه عندهم من الذل.
قال الفضيل بن عياض: «المؤمن في الدنيا مهموم حزين همه مرمة جهازه».
وقال الحسن: «المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها ولا ينافس في عزها، له شأن وللناس شأن».
وفي الحقيقة فالمؤمن في الدنيا غريب لأن أباه لما كان في دار البقاء ثم خرج منها فهمُّه الرجوع إلى مسكنه الأول، فهو أبدًا يحن إلى وطنه الذي أُخرج منه.
اللهم انفعنا بما علمتنا، واجعل ما علمتنا زادا لنا يوم نلقاك، ولا تجعل حظنا من العلم أن نكون ممن سمعه بهذه الأذن فخرج من الأخرى ، إنك أنت التواب الرحيم، نعم المولى ونعم النصير.
والحمد لله رب العالمين.